الصمت الرسمي يعمق آلام المجزرة (*)
سكان بني يلمان يطالبون بالكشف عن الحقيقة
كانوا أكثر من 400 مواطن، أغلبهم شبان تجمعوا أمام مقر بلدية بني يلمان بالمسيلة، انطلقوا في موكب مهيب وعلامات الحزن مرتسمة على وجوههم، آلامهم تضاهي آلام الشيعة وهم يحجون إلى قبر الحسين بكربلاء، سلكوا الطريق المؤدية إلى القرية المحصنة "مشتى قصبة" تلك القلعة الطبيعية ذات الموقع الاستراتيجي التي كانت مركز بومزراق المقراني إبان انتفاضة عام 1871..والتي كانت بيوتها ومسجدها في 28 ماي من عام 1957 مسرحا لمجزرة شنعاء ذهب ضحيتها 375 مواطن من بني يلمان من بينهم أطفال كانوا أوهموا بأنهم يتجهون لاجتماع مجاهدين، تلك المجزرة وإن حدثت بعيدا (7 كلم) عن ملوزة أطلق عليها مختصون في مخابر الحرب النفسية من الضباط الفرنسيين اسم ملوزة، دون أن يتفطن المؤرخون الوطنيون للمغالطة. عائلات ضحايا مشتى قصبة الذين اتجهوا أمس إلى مكان الجريمة في ذكراها السابعة والأربعين للترحم على أرواح 375 شهيد كانوا يتحسرون ولم يفهموا سبب منع وزارة الداخلية والجماعات المحلية تنظيم نشاطات، وفتح نقاش حول المجزرة تثريه تدخلات باحثين في التاريخ ومجاهدين من الولاية الثالثة، وضباط من جيش التحرير الوطني، وشهادات ناجين من مذبحة 28 ماي 1957.
مسؤول ولاية المسيلة، وبطلب من وزارته، أمر بإلغاء المهرجان بحجة بدت لنا غريبة مفادها، "أن ولايات عديدة طلبت الإلغاء خوفا من أن تثير الاحتفالات مشاكل".
سكان بني يلمان مازالوا يعيشون حتى اليوم ظروفا إجتماعية قاسية وحالة نفسية متوترة، بسبب ثقل الصمت الوطني والرسمي الذي يتجاهل معاناتهم، وعدم إنصاف ضحاياهم وضحايا الجزائر بإعادة الاعتبار لذاكرتهم، وتسليط الضوء على حقيقة الظلم الذي مسهم ومازال يتبعهم حتى اليوم بتهميش بني يلمان وعجز ثورة عظيمة مثل الثورة الجزائرية عن كفكفة دموع وتضميد جراح مواطني بني يلمان التي تزيد عمقا بسبب سكوت قاتل ودفن عمدي للحقيقة بحجة وأعذار باتت اليوم أقبح من ذنب.
شهادات الناجين وهم يعيدون تفاصيل ذلك الثلاثاء الأسود من ماي 1957 تثير التقزز والتذمر، وتفضح الروايات الفرنسية الخبيثة لهذه الحادثة التي دبرها وسطرها وحركها نفس الضباط والأجهزة التي دبرت عملية العصفور الأزرق لتحطيم الثورة والعملية الشيطانية المعروفة باسم "البلويت" الزرقاء، التي أفضت إلى تذبيح الألآف من خيرة المجاهدين الوطنيين بالولاية الثالثة، و 500 أخرين في الولاية الرابعة وكادت أن تفتك بخيرة مناضلي الولايات الأخرى لو لم يتفطن قادتها.
الرواية الجزائرية لمجزرة ملوزة، كانت محقة في توجيه أصابع الاتهام إلى الاستعمار واعتبار حادثة مشتى قصبة المروعة جريمة شنعاء، لكنها لم تقل الحقيقة كاملة ومفضلة بعدم الإعلان صراحة ورسميا أن المجزرة نفذتها كتيبة من الولاية الثالثة، وسكتت لعدة سنوات ولم تتدخل لإحقاق الحق والدفاع عن شرف وذاكرة الضحايا، بعد تصريح محمدي السعيد (سي الناصر) أحد قادة الفيس وقائد الولاية الثالثة أثناء المذبحة.
الإحساس بالتذمر، وأنت ببني يلمان، ينتابك عند سماع تفاصيل أحداث 28 ماي، ومشاركة الطائرات الفرنسية، واستخدام الحرب مع جيش بن لونيس الذي لم يكن بعيدا يومها، للتنكيل بـ 375 من المدنيين العزل والفلاحين والرعاة من بني يلمان بعد أن فشلت السلطات الفرنسية والنقيب كومبيط في تسليح بني يلمان وتحويلهم إلى حركى أو مجموعة دفاع ذاتي، قامت بتحريك مكيدة، كما فعل النقيب ليجي في البلويت، لربح حليف عسكري ضد الثورة.
لم يفهم الأساتذة والصحفيون سبب طلب ولاية المسيلة إلغاء الاحتفال بالذكرى 47 لمجزرة ملوزة، وقيل إن الأمر صدر من الوزارة لأسباب لا يمكن قبولها اليوم، ونحن نحتفل بمرور نصف قرن عن إندلاع الثورة، وعدد الشهود الذين لازالوا على قيد الحياة في بني يلمان وفي الولاية الثالثة يقل كل عام مما يستلزم من الجميع الإسراع في إعادة تشكيل الأحداث وحماية الذاكرة الوطنية.
الشهداء لا يزالون تحت صخور وأطلال قرية مشتى قصبة في مقابر جماعية، ولم يبق من القرية المحصنة سوى مبنى مسجد أبي بكر (يقصد المدرسة الصديقية نسبة للصحابي الجليل أبي بكر الصديق رضي الله عنه) من باب العرائس، ومسجد الجمعة (المعروف بجامع ونوغة الأعظم) الواقف على أعمدة خشبية. حبسنا دموعنا رفقا بعائلات الضحايا ونحن نقرأ على حائط المسجد الذي قتل فيه العشرات، هكذا، "مسجد كان في قديم الزمان يرفع منه صوت الآذان لأداء ركن من أركان الإسلام واليوم أصبح مهملا مندثرا بفعل الإنسان وأزهقت فيه أرواح أبرياء بصدق ولسان يعجز عن وصفها الإنسان، يا رب العالمين ارحمهم ماتوا مظلومين، واجعل مقامهم في جوار محمد الأمين (صلى الله عليه وسلم) في جنة النعيم". وبعد الترحم على الضحايا، تبقى قضية إعادة الاعتبار لبني يلمان أولوية الدولة والمجتمع الجزائري، لأن أبناءهم مازالوا ينعتون في المقابل بأبناء "الخونة"، واكتفى رئيس البلدية يوم الخميس بالترحيب بالضيوف والتذكير بمعاناة عائلات الضحايا، مطالبا في ذات الوقت بإعادة الاعتبار لبني يلمان المجاهدة، وبعث مشاريع التنمية وتطوير المنطقة معتبرا أن منع الولاية لنشاطات الاحتفال بذكرى مجزرة مشتى قصبة كانت نتيجة انعدام الرخصة القانونية، واعتذر للحاضرين الذين لم تفنعهم حجة المسؤول الأول عن البلدية الشهيدة.
--------------------------------------------------
(*) الباحث منتصر أوبترون: جريدة "اليوم"، عدد: 1617، السبت 29 ماي 2004، ص: 1 - 5.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق